في صباحِ يومٍ مِنَ الأيام, وأثناءَ احتسائي لقهوتيَ الصباحية, يقدِمُ إلى مكتبي أحدُ زملاءِ العملِ وعلى وجهِه علاماتُ الحَيرة. وبعد التحيةِ سألني ماهو برأيِكَ الأهم؟ أن ألتحِقَ بشركةٍ ذاتِ راتبٍ عالٍ أم أن ألتحِقَ بشركةٍ تمنحُني الخِبرةَ العالية؟

تبسمتُ في وجهِه وأجبتُه: لا أخفي عليك, كلاهما مهمٌ ولا يُمكنُ لأحدٍ الاستغناءُ عنهُما فكلٌّ منهما مُتمِّمٌ للآخر, ولكنني على يقينٍ أننا -وخصوصاً في بلادِنا العربية- بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى ذوي الخِبراتِ لأننا نفتقِرُ إلى أهلِ الخبرةِ, وذلك هو سببُ اللجوءِ المُعتادُ إلى التعاقدِ معَ شرِكاتٍ وكوادرَ أجنبية .

فتعجبَ مِن إجابتي وشكرني ثم ذهب فتبعتُه لإحساسي ببعضٍ مِنَ التقصيرِ في الإجابةِ وكأنني أدخلتُه في دوامةِ حَيرةٍ أكبرَ مِنَ التي كان بها, فسألتُه: هل لي أن أعلمَ سببَ

سؤالِكَ هذا لعلِّي أستطيعُ مساعدتَكَ وإخراجَكَ مِن حَيرتِك ؟

فأجابني: بصراحة وكما تعلم، هذا هو أولُ عملٍ لي بعدَ التخرُّجِ مِنَ الجامعةِ وقد عُرِضَ عليَّ الكثيرُ مِنَ الوظائفِ بسببِ تفوُّقي الجامعيِّ, منها ذاتُ الرواتبِ العاليةِ ومنها ذاتُ الرواتبِ المنخفضةِ وكلُّ واحدةٍ منها لها مزايا وعيوبٌ, ومِنَ الطبيعيِّ أنني شابٌ يُريدُ أن يبدأَ حياتَه بتكوينِ نفسِه ومِن بَعدِها تكوينِ الأسرة

ثمَّ أضاف: أنتَ أعلمُ مني بذلك وعندَك الخِبرةُ كَونَ عملِكَ الحاليَّ ليس بأولِ عملٍ لك ولا بُدَّ أنك مررتَ بالذي أمرُّ به الآن .

ومن هُنا حملَـتني ذاكرتي إلى تلك الأيامِ وتذكرتُ كم كانت تعني ليَ الخبرةُ وكم يعني لي جنيُ المال.

في بدايةِ حياتي العمَليةِ لم تكُن للخبرةِ الأولويةُ الأولى في ما يخُصُّ سعيِي للعملِ, حيثُ أنَّ منذُ بداياتِ نشأتِنا كانت تُزرعُ في أذهانِنا فكرةً أنًّ الشهادةَ الجامعيةَ هي مصباحُ علاءِ الدين وكلمةُ السِّرِّ التي تفتحُ لنا بوَّابةَ الحياةِ العمليةِ على مصراعَيها. وكأنَّ الشرِكاتِ تنتظِرُ بشغَفٍ خِرِّيجي الجامعاتِ لاقتِناصهم بالوظائفِ الشاغرةِ وقطفِ استعداداتِهم الفكريةِ الصافية. كما كان تساق الى أفكارنا أننا بمُجرَّدِ الوُلوجِ في الساحةِ العمَليةِ لن يبقى على عاتِقِنا همُّ جنيِ المالِ, وذلك لأن يُنبوعَ المكاسبِ سيكون قد بدأ بالتدفُقِ مؤمِّناً لنا حياةً مِنَ الرَّفاهية.

وبناءً على هذا الأساسِ, ومنذُ لحظةِ تخرُّجي, اتخذتُ قراراً بعدمِ طلب مصروفيَ الشهرِيِّ مِن والدَيَّ والبِدءِ بالاعتمادِ على نفسي في كلِّ شيءٍ, الأمرِ الذي كان بمثابةِ الحُلمِ الأولِ عندي، قناعةٌ مني أنَّ باستطاعتي أن أصعدَ إلى قِمةِ طموحي بمفردي. ومِن هنا بدأتُ بخوضِ معركةِ الحياةِ العمَليةِ والانغماسِ فيها واكتسابِ كل ما هو مُفيدٌ.

ومِن أهمِّ ما تعلمتُه في بداياتِ خوضي لواقعِ الحياةِ العمليةِ أنَّ مسارَ التقدمِ الوظيفيِّ لا يَقتصِرُ على الحاجةِ لِلشهادةِ الجامعيةِ وحدِها, ولكنَّ الدورَ الأهمَّ لرفعِ المستوى المِهنِيِّ يَرتكِزُ على نُمُوِّ الخِبرةِ التي تمتلِكُها في سيرتِكَ الذاتيةِ وتشعُّبِ جُذورِها.

وزِيادةً على ذلك, توصلتُ إلى نتيجةٍ مُفادُها أنَّ العمَلَ في إحدى الشركاتِ الكبرى التي ستَمنحُ أيَّ موظفٍ الخبرةَ المطلوبةَ قد يتأمَّنُ إذا حالفك الحظُّ أو إذا تدخلَت يدُ الواسِطةِ في تأمينِ ذلك.

فإذا ما حالفك الحظ فعلاً أو كان للواسطةِ دورٌ في دخولِك لإحدى هذه الشركاتِ, فلن يستطيعَ أن يُوفِّرَ لك هذا الحظُّ أو هذه الواسطةُ الاستمرارِيَّةَ في العملِ, ناهِيكَ عنِ التقدُّمِ والارتِقاءِ إلا عن طريقِ الاجتهادِ والجِد والتَّفاني في العمل.

وفِعلاً قد حالفني الحظ بَعدَ أن عملتُ كمُتدرِّبٍ في أكثرَ مِن شركةٍ وبذلتُ الكثيرَ مِنَ الجُهدِ حتى حصَّلتُ في سيرتيَ الذاتيةِ ما يكفي مِنَ الخبرةِ حتى تهيَّأت لي بدايةُ حياتيَ العمليةِ في أولِّ عملٍ رسميٍّ لي, والذي بدأتُه بمثابرةٍ وبتوفيقٍ اللهِ عزَّ وجل لي